ليس أخطر على الإسلام والمسلمين من أولئك الذين يعيشون في أنفاق مظلمة أو غرف مغلقة وأسرى أفكار مُحنَّطة. رضوا عن جمودهم، ورضي عنهم جمودهم. يريدون أن يقبع الناس جميعهم مثلهم في حالة تحنيط ديني. جاهزون دائمًا لرمي غيرهم بكل نقيصة. يتوهمون أنهم احتكروا الحق والحقيقة. مثل أولئك عبء ثقيل على الحياة والإنسانية، وإثمهم أكبر من نفعهم. إذا صحَّ أن خليفة المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "أميتوا الباطل بالسكوت عنه"، فهل هذه النصيحة تصلح لزماننا هذا؟ من المؤكد: لا؛ فما كان يصلح في زمن الفاروق لم يعد صالحًا الآن، كما إن كل قول منسوب للصحابة –على فرض صحته- غير مُلزم لعموم المسلمين، ولا يجب أن يتم التعامل معه باعتباره عابرًا للزمان والمكان. الوحي الشريف كان يتنزل على النبي الكريم فقط، وبوفاته انقطع، ولم يتنزل على الصحابة الأطهار من بعده. إن الظروف والمعطيات والملابسات تختلف وتتغير بتعاقب السنين.
في زمن الفضاء الإلكتروني وجنون وسائل الدعاية والإعلان والإعلام والإعلام المضاد..يقذف بعض القابعين في كهوف الماضي بهذه "النصيحة العُمرية" في وجوه كل من تحدث أحد عن خطر جلل، أو نوَّه إلى أمر جسيم. يسعى هؤلاء –دون معرفة سابقة- إلى فرض وصاية جاهلية علينا، ويريدون له أن نسير في ركابهم؛ باعتبارهم أصحاب الوعي والكمال، وهم دون ذلك تمامًا بكل تأكيد. أعلم أن أمير المؤمنين قصد من هذه النصيحة غير الملزمة –إن صحَّت نسبتها إليه- التحذير من نقل الباطل، وتداول مقالاته، ولو كان هذا النقل في صورة التحذير منه؛ فإن في نفس التحذير منه إشاعة له! هناك رواية أكثر تدقيقًا تلك التي رواها "أبو نعيم" في "الحلية" عن عمر رضي الله عنه قال: "إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا يُمِيتُونَ الْبَاطِلَ بِهَجْرِهِ، وَيُحْيُونَ الْحَقَّ بِذِكْرِهِ"، وتحمل في طياتها نفس المعنى..ولكن يبقى السؤال أيضًا: "أيُّ حق وأيُّ باطل"؟. القياس خاطيء، والنقل ساذج، والعقل قاصر، والزمن اختلف!
في هذا الصباح..كتبتُ منشورًا دعوتُ فيه إلى مقاطعة فيلم "الملحد"، المرتقب عرضه خلال أيام، بحسب تصريحات منسوبة إلى منتج العمل، وعديد من أصدقاء وندماء المؤلف وداعميه ومَن يدورون دورانه. ورغم حالة الترحيب بفكرة المقاطعة التي دعوتُ لها؛ ليس اعتراضًا على فكرة الفيلم، ولكن احتجاجًا على المؤلف ذي الأفكار العدوانية المثيرة للجدل السوفسطائي إلا إن هناك من استسهل وألقى بكل سذاجة في وجههنا بمقولة ابن الخطاب..يا للهول!
هل الدعوة إلى مقاطعة عمل فني مُعادٍ لهوية المصريين خطيئة أو تحمل في طياتها ترويجًا..كيف؟! هذا طرحٌ ساقطٌ متهافتٌ، فوسائل الدعاية الثقيلة سوف تقوم بـ"الواجب وزيادة"، وتروج للفيلم على أوسع نطاق؛ خاصة أنه يوافق هواهم المريض. أصدقاء المؤلف والمنتمون إلى تياره مرابطون على منصات التواصل الاجتماعي، لم يتوقفوا عن الترحيب بالفيلم منذ اللحظة الأولى؛ لإيمانهم بأن صديقهم المؤلف لن يخيب ظنهم، وسوف يحقق لهم ما يعجزون عن تحقيقه. هل تَركُ الساحة لتيار كاره للإسلام بالسليقة، شديد العدوانية والبغضاء هو الوسيلة المثلى في هذه المعركة غير المتكافئة؛ انطلاقًا من نظرية: "أميتوا الباطل بالسكوت عنه"؟! هذا انسحاب وهروب وتخاذل وبلادة ونفاق. القرآن الكريم لم يُمت الباطل بالسكوت عنه؛ فما أكثر المواقف التي كان حاضرًا فيها بقوة، وكاشفًا خطايا وخبايا وخفايا. الرسول الكريم لم يُمت الباطل بالسكوت عنه، فما أكثر المواقف التي تعامل فيها بوضوح وجدية وصرامة؛ نصرًا للحق، وفضحًا للباطل. الهَدي النبوي الشريف يدعو المسلمين دائمًا إلى رفض المنكر والاحتجاج عليه وتغييره إن أمكن: "من رأي منكم منكرًا فليغيره...." الحديث، وفيلم "الملحد" مُنكرٌ لا جدال! ما أحوج هذا التيار الكاره للإسلام إلى أن يطبق المسلمون هذه المقولة المنسوبة للفاروق رضي الله عنه، حتى يخلوا لهم الميدان، فيحققوا مرادهم وينجزوا أهدافهم والخطط الموضوعة لهم. وفي المقابل يزعجهم دومًا ويربكهم وجود خطوط دفاع حصينة قادرة على إفساد كل ما يرمون إليه، وتفنيد أطروحاتهم الفاسدة وكشف عوارها أولاً بأول؛ حتى لا يُفتتن بهم ضعاف الإيمان والعقل والقلب. إذا كانت المؤسسات الدينية المنوط بها الذود عن الإسلام ضد خصومه ارتضت الصمت أو السكوت عن الباطل؛ لأسباب لا تخفى على أحد، فلا يجب أن يحذو الأفراد حذوها في هذا الأمر تحديدًا، ولا أن يمسكوا العصا من المنتصف، ويداهنوا المنافقين ويتخذوهم أولياء من دون الله، ولا أن يميتوا الباطل بالسكوت عنه؛ لأن الباطل –وجوديًا وعمليًا- لن يموت حينئذ، بل سوف يتعاظم أذاه ويتفاقم شره. لو كان ابن الخطاب حيًّا بين ظهرانينا ما لجأ إلى السكوت عن عرض مثل هذا الفيلم؛ باعتباره "باطلاً"، وربما طارد منتجه ومؤلفه بالدُّرة القوية التي كان يرهب بها كل خارج أو متجاوز أو متنطع أو متكاسل أو ماكر أو منافق..قاطعوا فيلم الملحد، ولو كره أصحاب قاعدة: "أميتوا الباطل بالسكوت عنه"!